بهو البياض.. العتبات النصية في (ومض) بدر بن عبدالمحسن

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بهو البياض.. العتبات النصية في (ومض) بدر بن عبدالمحسن, اليوم الجمعة 10 مايو 2024 02:24 صباحاً

بهو البياض.. العتبات النصية في (ومض) بدر بن عبدالمحسن

نشر بوساطة محمد الراشد في الرياض يوم 10 - 05 - 2024

2074469
فوق بطاقة الفهرسة على الصفحة الثانية من كتاب (ومض) للشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن، وفي الخانة المخصصة للتصنيف؛ كتبت العبارة التالية: (الشعر الشعبي السعودي)، أي أن الكتاب جرت فهرسته وتصنيفه باعتباره ديوان شعر عامي، وهذا بطبيعة الحال تصنيف تلقائي مباشر، يتم بالنظر إلى صاحب الكتاب الذي هو علَم من أعلام القصيدة العامية، وهو كذلك تصنيف يستبطن تاريخ التجربة الإبداعية التي أنتجت قبل هذا الإصدار ثلاثة إصدارات كلها تنضوي تحت ذلك التصنيف، وبالتالي كان لزامًا للمصنف أن يجري على هذا الكتاب ما جرى على إخوته من قبل من ضمهم جميعا تحت بند الشعر العامي، حتى دون النظر إلى محتواه.
غير أن التمعّن في مضمون الكتاب، وتفحص محتواه، سيقودنا حتمًا إلى إعادة النظر وبكثير من الارتياب إلى ذلك التصنيف الذي سيبدو لنا وقد تعجل كثيرًا، إن لم يكن قد أخطأ في ضم ذلك الكتاب إلى إخوته الدواوين الثلاثة السابقة باعتباره يؤول معهم إلى أرومة الشعر العامي، حتى وإن كانوا جميعا قد تخلقوا في رحم قريحة واحدة، وخرجوا من صلب قلم واحد!
وقد يكون من المفارقة بمكان أن تستهل هذه المقاربة بما يشبه الجرد لمحتويات ذلك الإصدار، لولا أن الجرد ربما يكون سبيلنا الوحيد لنتبين حقيقة نسبة ذلك الإصدار إلى فضاء الشعر العامي خاصة ونحن نعثر فيه على الكثير مما سوى الشعر، أو الشعر العامي على وجه التحديد، كما ستكشف لنا الإحصائية التالية؛ حيث تضمن كتاب (ومض):
126 ( مئة وستة وعشرين) نصًا مكتوبة بالفصحى، تراوح بين الطول والقصر، غائمة الهوية الأجناسية ويمكن لها أن تصنف جملًا شعرية قصيرة أقرب ما تكون إلى أجواء ما يسمى بقصيدة النثر، أو لنقل إنها ضرب من النثر الفني المكتوب بلغة مكثفة وموحية.
تضمن الكتاب 66 (ستًا وستين) لوحة فنية تشكيلية جميعها بريشة صاحب الكتاب.
عدد النصوص العامية في الكتاب لا يتجاوز 30 (ثلاثين) نصًا، كلها مقطوعات قصيرة، وبعضها مجتزآت من نصوص قديمة، وجميعها غير معنونة.
وإثر ذلك نتبين أن عدد النصوص الفصيحة يتجاوز ثلاثة أضعاف النصوص العامية، مثلما أن عدد اللوحات التشكيلية أكثر من ضعف عدد تلك النصوص، بمعنى أن حضور العامية في كتاب يربو عدد صفحاته على مئة وخمسين صفحة، لا يبلغ ربع مساحة بياض ذلك الكتاب، ليتجلى للقارئ أن (ومض) البدر ليس ديوان شعر عامي، وإن تضمن نزرًا من نصوصه، هذا إن لم يكن خارج تصنيف الشعر على الإطلاق.
ولعل محاولة إسباغ هوية ما على ذلك الإصدار تقودنا في نهاية الأمر إلى اعتبار أن ال(ومض) تجربة إبداعية خارج أطر التصنيف، تتماهى بمفاهيم النص المفتوح الذي يؤاخي بين تقنيات فنية مختلفة، ويمزج أشكالًا تعبيرية متعددة ضمن دائرة النصية متجاوزًا التخوم المعتادة، والهويات الأجناسية لطرائق التعبير التي يوظفها لتسويق رؤاه والبوح بمكنوناته.
لولا أننا حين نتصالح على وصف مثل ذلك الإصدار لبدر بن عبدالمحسن بأنه تجربة إبداعية؛ فإننا حينها لا نكون بمفازة من سطوة التاريخ الذي يحفظ لنا أن البدر هو رائد التجديد في القصيدة العامية في المملكة والخليج، منذ أن أطلق في فضاء القصيدة نصوص (عطني المحبة)، (زمان الصمت)، (أرفض المسافة)، (جمرة غضا) وغيرها من النصوص التي شكلت في حينها خروجًا على نمطية القصيدة الشعبية التقليدية، وحررت الذائقة من أغلال تاريخ طويل من الكلاسيكية الجامدة، وأشرعت الباب واسعًا لجيل من الشعراء الذين خرجوا من عباءة البدر صوب تجاربهم الجديدة، التي نفضت كثبانًا من رمال السنين عن متن القصيدة وأعادت للشعر بريقه ورونقه، وارتقت بالمنجز العامي ليغدو رصيفًا مقابلًا ومقاربًا لشقيقه الفصيح يغتذي من معينه، ويسلك مسالكه ويتقاطع معه في كثير من آلياته، وسبله في البوح بمضامينه، وبالتالي فهذه التجربة تندرج ضمن تاريخ ممتد من التجريب وكسر القوالب والانقلابات البيضاء بياض الشعر، ركضًا صوب الآفاق الجديدة.
غير أن البدر الذي اتسعت عباءته لكل أولئك المبدعين، يبدو هذه المرة وقد طوى تلك العباءة الرحبة، واستبدلها بالبدلة وربطة العنق، فيما يبدو تدشينًا لمرحلة جديدة، ستطوى في تضاعيفها كثير من ملامح الأمس، مفسحة المكان لتجربة جديدة تحمل الكثير من الجدة والاختلاف.
ولعل كتاب (ومض) هو الوثيقة التي تتضمن معالم الحدود التي يتقاطع فيها أمس التجربة، وحاضرها وملامح غدها، ونتذكر هنا ما قاله البدر ذات شعر:
لي عبرة يلعب بها الحزن والتيه
وبي صرخة وتعبت أبالقى لها فم (1)
ويتراءى لنا أن تلك الصرخة ستظل وإلى أجل غير مسمى تبتكر لها أفواهًا، وتخلق لها ألسنة تنطق بالعامي مرة، وبالفصيح مرة، وبلغة الألوان مرة إثر مرة.
وعلى صعيد الممارسة النقدية، ومثلما أن حقولًا من الفعل النقدي قد نمت على حواف التجارب السابقة؛ فإن التجربة الجديدة تمتلك من الاختلاف، وكسر المألوف، ما يجعلها محل إغراء للقراءات الناقدة التي تحاول استكناه الجديد المختلف لغة ومضمونًا.
وإذا كانت أكثر القراءات والمقاربات تحاول استكناه النص من داخله، والتجربة من أعماقها؛ فإنه يمكن لنا أن نزعم لهذه القراءة قدرًا من الجدة، وقليلًا من مغايرة السائد، وهي تحاول العبور إلى النص وتهجس بمقاربة التجربة انطلاقًا من عتباتها وحوافها البعيدة القريبة.
لولا أن نشير إلى أن مقاربة تجربة ال(ومض) بدءًا بالعتبات ليست هاجس اختلاف فحسب، وإنما لأن التجربة قد انطوت على مسوغات شتى كافية لإثارة شهية الناقد لملامسة تلك العتبات ومقاربة آفاق الدلالة التي تتبدى في كل جزء منها.
والحق أن تجربة العتبات النصية في كتاب (ومض) تجربة لافتة، وجديرة بالقراءة ومحرضة على كثير من التأمل، ولعل من يطالع الصفحة الأخيرة من الكتاب، سيتاح له الوقوف على حجم الجهد الذي بذل لإنجاز تلك العتبات، والتي توزع مهام إخراجها في صورتها النهائية فريق عمل كامل، تفصح المهمة المناطة بكل عضو فيه عن القصدية التامة التي أنجزت بها تلك العتبات، والتي تتجاوز كونها قوالب إخراجية، إلى اعتبارها في مجموعها العام تشكل نصًا رديفًا منسجمًا مع خلجات المؤلف وما تترامى إليه رؤاه، خاصة حين نأخذ في الاعتبار أن المؤلف منتمٍ إلى عوالم الفن التشكيلي أيضًا، وبالتالي فهو يملك الحساسية اللازمة لإدراك أهمية توظيف النصوص المحيطة والأبعاد التي تضيفها إلى دلالات النصوص ومضامينها فتزداد بها ثراء وعمقًا.
والعتبات التي تضعها هذه المقاربة محل القراءة تندرج تحت مفهوم ما يسميه جيرار جينيت (النص المحيط) (2)، ويقسمه إلى النص المحيط النشري (3)، والنص المحيط التأليفي (4)، ويندرج تحتهما كل ما يحيط بالنص ابتداء من الغلاف وما يتضمنه، مرورًا بصفحات الاستهلال والفهرس، ووصولًا إلى العناوين الداخلية وتوزيع النصوص داخل الكتاب والحواشي وألوان الكتابة وكل ما يسيج النص ويعمل على تكثيف الدلالة وتعزيز الرؤية الكامنة وراء إنتاج مثل هذا الكتاب.
ويمكن لنا أن نوجز الحديث عن تجربة العتبات النصية في كتاب (ومض) في المحاور التالية:
1- الغلاف / عتبة البياض
إن أول ما يصافح الناظر إلى كتاب (ومض) هو ذلك البياض الفاقع الذي يتسربل غلافيه الأول والأخير بالكامل، مشتملًا على العنوان الذي جاء على الغلاف الأول متماهيًا بالبياض واسم الشاعر الذي كتب بخط دقيق بارز متضمنًا بقعًا لونية صغيرة متفاوتة.
وامتداد البياض بين الغلافين يحيل إلى أن البياض هو الأصل، وكل الذي يخط فوق البياض طارئ عليه، إذ البياض هو الكتابة والمحو معًا، وما يمارس فوق البياض هو في نهاية الأمر تجربة قابلة للمحو، وقابلة للاستبدال، وقابلة للبقاء، ومن ثم فالبياض من شأنه أن يجلو دهشة التلقي الناشئة عن كسر أفق التوقع بتجربة مغايرة للمألوف من منجز الشاعر، حين نقيم من التجريب مبررًا يؤكده بقاء الغلاف بهوًا من البياض في حين أن صاحب الكتاب فنان تشكيلي كان بوسعه أن ينتخب لغلاف كتابه ما يشاء من تكوينات اللون، لولا أنه أفسح للأبيض أن يكون قصيدة البدء، وكأن التجربة تعود إلى درجة الصفر لتنطلق نحو فضاء جديد، ليكون الجديد صفحة بيضاء خالصة متحررة من كل ما سبق.
والإبقاء على بياض الغلاف رغم أن فريق عمل كامل تضافرت جهوده لإخراج الكتاب، يؤكد أن دلالات البياض كانت ماثلة إزاء نظر الشاعر وهو يثبت وينفي من خيارات الإخراج ما يرتضيه لكتابه قبل أن يخرج في صورته النهائية إلى يد قارئه.
كذلك فإن البياض ينطوي على دلالات الإفصاح والإبانة، وبتذكر أن الفصحى هيمنت على أكثر نصوص الكتاب، الذي أنجزه شاعر عامية متمكن، في هذه الحالة يكون البياض نصًا محاذيًا لنصوص الكتاب ودالًا عليها بوضوح، فإن كانت هي فصيحة اللغة فهو فصيح الدلالة منذ النظرة الأولى، وقبل حتى أن يقرأ حرف واحد من مضمون الكتاب، وكأن الغلاف يعكس ثنائية اللون والكلمة التي يستصحبها الشاعر على امتداد مسيرته.
2- الإهداء – العنوان / عتبات الروح:
وحين نقرن عتبة البياض تلك إلى عتبة الإهداء، نشهد حينها انبثاق دلالة موحية ومكتنزة من دلالات البياض، إذ الإهداء كان إلى والدة الشاعر (وضحى)، واسم المهدى إليها يحيل إلى معاني الوضوح والتجلي، ومن قبل قال الشاعر عنها:
أعشق الوضح لأجلك والضحى
وضوح برق الوسامى في العتيم (5)
وبذا تنسجم إحالات الاسم مع دلالات البياض، وكأن الشاعر حين يستلهم روح والدته وملهمته، يستلهم معها كذلك البياض الكامن في روحها، فلا يجد لونًا آخر يضارعه ليكون غلافًا يغلف به هديته إلى وضحى الوالدة والملهمة.
وكلمة (ومض) التي عنون بها الكتاب ونقشت على صدر غلافه نقشا خاليًا من أية تعبئة لونية هي كلمة وثيقة الصلة بضوء البرق الذي أشار إليه الشاعر (ضوح برق الوسامى في العتيم)، وحين يربط الشاعر اسم ملهمته بوميض البرق، ثم يختار الومض عنوانًا لكتابه فهو يؤكد أنها الملهمة حقًا، وأن ما كتب إنما هو ومض من بروقها، التي لم تكن بروقًا خلب، بل أثمرت مطرًا تجلى هنا بعض قطره، وبعضه تضمنه هذا البيت الذي قاله الشاعر يرثيها به:
وضحى لها من طامن الغيم ظله
ما ادري سحاب كفوفها ما ادري أمطار (6)
ويتأكد ذلك حين نعثر على كلمة ومض على صفحة العنوان الداخلية الثالثة وقد كتبت بالأبيض أيضًا ولكن فوق صفحة سوداء ومذيلًا باسم الشاعر مكتوبًا بخط دقيق مذكرًا ب(ضوح برق الوسامى في العتيم)، وليؤشر الخط الدقيق الذي كتب به اسم الشاعر إلى شعوره بعظمة تلك الملهمة التي تومض ذكراها في عتم الروح فتستشعر الروح تضاؤلها، ويتذكر الشاعر تواضعه وبساطته في حضرة الملهمة الأم.
أما صفحة الغلاف الداخلية الثانية فقد خط عليها العنوان باللون الرمادي، بينما تركت بقية الصفحة بيضاء تمامًا، والرمادي الذي تلون به العنوان هنا هو اللون الذي كتبت به القصائد العامية داخل الكتاب أيضا، وإذا كان البياض يؤشر إلى اختلاف التجربة وجدتها، والرمادي لون الشعر، فإن اجتماعهما فوق صفحة من صفحات العنوان يمكن أن يقرأ في سياق الاستدراك أن التجربة وإن توشحت البياض، فما تزال مشوبة ببقية من ميراث الشعر، ولو كان ومضًا متواريًا في لجج البياض، وخلو الصفحة من اسم الشاعر يؤشر إلى الرغبة المستجدة في الخروج من إطار التجربة القديمة، والوقوف بمسافة من القصيدة، وترك الذي تبقى من نزف القريحة يتماهى ببياض الرغبة الجامحة نحو اجتراح أفق جديد للإبداع وفضاء أرحب للكتابة.
وحين نعود أدراجنا نحو الغلاف، ونمعن النظر نحو الآلية تم بها حفر عنوان الكتاب، واسم الشاعر؛ نجد أنهما حفرا بطريقتين متعاكستين؛ إذ عنوان الكتاب محفور نحو الأسفل باتجاه الصفحات الداخلية، بينما اسم الشاعر محفور على ذات الغلاف نحو الأعلى باتجاه الخارج، والرسالة المخبوءة في بياض الغلاف والتي تومض بين العنوان وصاحبه، أن ال(ومض) عنوان يلاصق التجربة ويتحد بها، ويكتنز حمولاتها ومضامينها، لولا أنه ليس كل شيء لدى الشاعر الذي يقف بمسافة من التجربة، رابيًا فوق أرض البياض، مستغرقًا النظر في ثبج النص من شاطئ الغلاف فربما لاح له أن يترك البحر رهوًا، نحو مغامرة أخرى ذات شعر.
وحين يكون اسم الشاعر هو الكتابة الأبرز على الغلاف، والمرسومة بعدة ألوان، فيمكن لنا أن نقرأ في عتبة الاسم هنا أن الشاعر نفسه هو الثابت الوحيد في تحولات التجربة، والقاسم المشترك الذي تتقاطع في شخصه كل المحاولات السابقة، التي كرست بروز هذا الاسم طافيًا فوق كل التجارب.
وغني عن القول ما تنطق به الألوان من تنوع الروافد التي تسكب رحيق الإبداع في نهر التجربة الصاخب.
3- الفهرس / رماد العتبات:
الفهرس هو خارطة الطريق في مجاهل الورق، وغالبًا لا يعدو أن يكون مفتاح العبور إلى وجهة ما في أصقاع البياض، ويندر أن يتضمن الفهرس اكتنازًا دلاليًا موحيًا، لكن قصيدة العتبات المضمرة في (ومض) تضم تحت جناحيها كل أجزاء التكوين الفني المتقن، وتمنح لكل جزء طاقته الدلالية الخلاقة التي يسهم بها في وضع الإطار الفني في صورته النهائية.
وأول الذي يسترعي الانتباه في صفحة الفهرس هو استخدام كلمة (المحتويات) بدلال من (الفهرس)، وهو استخدام يشكل انزياحًا عميق الدلالة حين يتم العدول عن جمود وعلمية (الفهرس) إلى إيحائية (المحتويات) والتي تحيل إلى معاني الاحتواء والضم، وحين نقرن دلالة الكلمة إلى موجودات الصفحة والتي تتضمن فقط عناوين المقاطع المكتوبة بالفصحى داخل الكتاب، تتكشف لنا الدلالة المندسة في ذلك العدول والمرتبط بالتجربة التي يراد التأكيد على أنه قادرة على (احتواء) الفصيح مثلما أنها قد احتوت العامي من قبل وعبرت به آفاقًا شاسعة، وبالتالي فلا نعثر في قائمة العناوين إلا ما يتعلق بالفصيح دون العامي أو اللوحات الفنية.
ومع ذلك فقد كانت العامية حاضرة بطريقة أو بأخرى، وعادت متخفية في حلل الرماد الذي كتبت بلونه فقرات المحتويات، لتكون للمكتوب إحالة مزدوجة تجمع الفصيح والعامي في آن معًا، وفي جملة واحدة، وتؤكد أن العامي هو البوابة التي لا بد أن يعبر منها من رام قراءة واعية لمنجز الشاعر وتجاربه، حتى وإن كانت بوابة من رماد الأمس، تفضي إلى كثير من جمر اللحظة، وما يدخره الغد من حرائق الحروف الوامضة.
4- عتبة الصورة / البدوي الأنيق:
حين يختار شاعر بدوي لصورته التي تتصدر كتابه، أن تكون بالبدلة وربطة العنق، ليكسر بذلك أفق التوقع الذي يؤطر البدوي دومًا في إطار الصورة النمطية لزيه المعتاد الذي ظهر به في صوره المضمنة على أغلفة كتبه السابقة، وكذلك في جل حضوره الإعلامي، حين يختار البدوي ذلك لصورته؛ فهو اختيار ليس للتأنق أو الخروج عن المعتاد أو لخلق مفاجأة بصرية مفرغة من الدلالة؛ إنما اختار البدوي ذلك القالب الصوري وهو يعي تمامًا ما يفعل، وما يخبئه تحت البدلة الأنيقة من دلالات مغادرة التجربة أفقها القديم، ومجاوزتها للسائد، وهي تضمر أن أفق التلقي لم يعد محصورًا في شريحة من الجمهور محددة بحدود اللهجة التي تشكل معمار القصيدة، وإنما أضحى أفق الخطاب منفتحًا وممتدًا إلى أقصى حدود الضاد، بعد أن ألقت التجربة "عباءة" المحلية، وتحررت من "قميص" اللهجة، وانطلقت من "عقال" الإقليمية نحو أفقها الأرحب، وتجسدت كل تلك التحولات في رمزية الصورة التي اختارت ذلك اللباس لتتوحد فيه هويات المخاطبين جميعًا من قبل صاحب الكتاب الذي أظهرت الصورة حرائق الشيب وقد غزت أطرافًا من شعره، وكأن البياض الذي تدثر به الديوان إلى جانب ما تقدم من دلالاته رمزي يحيل إلى مرحلة عمرية مكللة بالبياض الذي لا يفت في عضد الروح التي ما تزال تقتحم الآفاق وتهجس بالقصيدة الأنقى والحروف الأرحب.
5- الحاشية / هامش لربطة عنق:
بردان أنا تكفى.. أبي أحترق وأدفا
لعيونك التحنان.. وعيونك المنفى (7)
ترى هل سيكون أي من قراء هذا المقطع في المملكة أو الخليج بحاجة إلى حاشية تفسيرية توضح أن: (تكفى كلمة بدوية منحوتة من الأصل اكتفاء، يتداولها أهل نجد في الطلب كقولهم ساعدني في أمر ما)(8) كما ورد في الكتاب ضمن حاشية الصفحة التي تضمنت هذا المقطع؟!، وما أهمية أن تضاف هوامش تفسر كلمات مثل: (يمدي – الدواير – الهاجوس – وين – الخلايق)، فتعرف "الدواير" مثلا بأنها الدوائر و "الهاجوس" بالهاجس "والخلايق" بالخلائق؟!
حتمًا فلم تكتب تلك الحواشي لقارئ محلي أو خليجي، إنما أضيفت هي وبقية الهوامش على امتداد الكتاب لتقريب غوامض اللهجة لقارئ مفترض خارج النطاق التداولي للهجة التي كتبت بها نصوص الشاعر.. قارئ وطنه ممتد من الماء إلى الماء، معني بكل الذي بين دفتي الكتاب من البياض إلى البياض.
والملاحظ أن الهوامش لا تعنى بإيضاح معاني المفردات قدر عنايتها برسم الكلمات رسمًا صحيحًا وفق طريقة نطقها في الفصحى، ليكون مستوى العلاقة بين الفصيح والعامي في الكتاب متقدمًا عن كونه مجرد تجاور للنصوص، إلى كونه تقاربًا وتداخلًا يتعذر معه لأي من العامي أو الفصيح أن يتحقق له حضوره الكامل وتكتمل أجزاء صورته دون الآخر، إذ لن تقرأ تجربة الشاعر في الفصيح قراءة صحيحة إلا على ضوء من منجزه في كتابة العامي، ولن يتسنى للعامية أن تبلغ حدود الخارطة التي يؤملها الشاعر لقصيدته خارج حدودها القديمة إلا بمدد مستمر من الفصيح يجلو الكلمات لتفصح عما يكمن في ظلالها من ذخائر المعني وأنين القصائد.
ولعل فيما يتقصده إثبات تلك الهوامش ضمن المتن قرينة تؤكد ما ذهبنا إليه بشأن دلالات صورة الشاعر في مستهل الكتاب.
6- الترقيم / مواقع النجوم:
إن يكن ال(ومض) هو العنوان الذي ارتأى الشاعر أن يصافح به قارئه، فإن الترقيم الداخلي للصفحات يسجل انحرافًا عن المعتاد من أنماط الترقيم، عندما يكتب الرقم مسبوقًا باسم الشاعر في جميع الصفحات، بينما المألوف أن يكتب الرقم منفردًا أو مضافًا إلى عنوان الكتاب، لولا أن ورح الشعر قد تغشت كل تفاصيل الكتاب، وتلبست كل مفاصله وعتباته، فجاءت جملًا مكتنزة الشاعرية والإيحاء، وإن يكن الشعر في صورته المعتادة أقل ما في الكتاب، فإن الكتاب برمته قصيدته تتراءى من خلفها روح شاعرة، ترى أن كل صفحة من الكتاب قطعة من الروح لا ترتضي لها أن توسم بغير اسم شاعرها ومبدعها، فيتراجع العنوان الذي هو مجرد إشارة إلى المحتوى في عمومه، ويوقع الشاعر باسمه كل ورقة في كتابه تعود بأصلها إلى أدواح الروح، وتلك الصفحات ومضات في سماء القلب تجمعت لتشكل سفرًا من وميض البرق عنوانه (ومض).
8- المحتويات / فهرس.. ربما قصيدة:
حين ندلف إلى داخل كتاب ومض، ونتأمل الطريقة التي وزعت بها المحتويات من نصوص فصيحة أو عامية أو لوحات تشكيلية، نجد أن تنسيق المحتويات لم يتخذ شكلا ثابتًا، أو يجري على نسق بذاته في تحديد مواقع النصوص أو اللوحات، بل ظلت مواقع النصوص في تغير مستمر وتبدلت الأماكن مرارًا على امتداد مساحة الكتاب، فحلت النصوص محل اللوحات، واللوحات محل النصوص، وتقدم الفصيح على العامي مرارًا، وتقدم العامي على الفصيح مرارًا أيضًا، ويمكن أن نقتنص هنا إشارة واضحة إلى أن التجربة وإن كانت تعبر بالكتابة بشقيها العامي والفصيح، وكذلك بالرسم، إلا أنه لا مركزية لأي من تلك الأشكال في إطار التجربة، وإنما للحالة الشعورية أن تستدعي القالب الذي تعبر من خلاله وتبوح بمكنونها.
غير أن حضور النصوص العامية بالنظر إلى نظيراتها الفصيحة يمكن أن يدخل تحت طائلة ما نعتبره (حضور الغياب)، فبالإضافة إلى ما تقدم في بداية القراءة من تضاؤل عدد النصوص العامية مقابل الفصيحة، نجد أنه حتى ذلك النزر اليسير قد جاء على صورة مختارات من نصوص قديمة وحديثة جرى توزيعها وفق آلية تجعلها تبعًا للنصوص الفصيحة، بحيث يشمل العنوان الواحد نصًا فصيحًا يلحق به آخر عامي، وحين يحضر العامي سابقًا على الفصيح فإنه يكتب دون عنوان، وكأن ثمة حقيقة تترامى إليها التجربة مفادها أن الفصحى هي الأصل، وما تشعب من اللهجات تابع لها، ولا تتحقق له هويته إلا بها، وكأن التجربة حين تؤاخي بين العامي والفصيح تحت عنوان واحد تجيب ذلك اللغط الدائر في محيط الثقافة، والأزمة المفتعلة بين العامي والفصيح على الدوام، ويتأكد ذلك الفهم حين لا نعثر على العامي إلا رديفًا للفصيح في سائر الصفحات، بينما يحضر الفصيح منفردًا في عدد من صفحات الكتاب.
وحين نغلب على النصوص الفصحى هوية النثر إزاء الهوية الشعرية الساطعة للعامي؛ يمكن حينها القول إن التجربة تفسح المجال لشكل تعبيري جديد بعد عقود من الممارسة الشعرية، حققت خلالها جل أغراضها، وقد آن لها أن تنحسر ولو قليلًا ليخرج من تضاعيفه بوح مستجد مبتل بماء الشعر، ولو لم يكن شعرًا، ليتجسد من خلاله، وما يسيجه من بقايا الشعر(حضور الغياب).
9- الخط / تضاريس القصيدة:
رسمت المقاطع النثرية في الكتاب في خطوط أفقية متفاوتة الطول، ومنتظمة في شكلها العام، وكان كل من حجم الخط ودرجة اللون ثابتان في جميع النصوص، بينما كتبت النصوص الشعرية بخط واحد متفاوت الحجم في سطوره ومقاطعه، واتخذت أشكالًا متفاوتة وغير مستقرة، وكل من آليات الشكل الكتابي تلك يعكس طبيعة الكتابة في الشكلين النثر والشعر، ففي الوقت الذي تعكس فيه طريقة كتابة المقاطع النثرية طبيعة كتابة النثر الهادئة المنتظمة، فإن آلية تدوين المقاطع الشعرية في الكتاب تعكس قلق الكتابة الشعرية ومعاناتها وتضاريس الوجع الذي يعتري الشاعر لحظة النزف على الورق، ذلك النزف الذي يسخو حينا ويشح حينًا، وينتظم حينًا، ويضطرب في كثير من الأحيان، فتغدو القصيدة (أرجوحة تقطع المسافة دون أن تبرح المكان)(9).
وإن يكن الرمادي الذي خطت به القصائد هو لون الحياد، والمنطقة الوسطى بين بياض الورق والأسود الذي يرسم معالم النثر؛ فربما كانت تلك سمة واضحة للتجربة وعلامة فارقة لمرحلة جديدة من عطاء الشاعر، مرحلة تحييد القصيدة، ووضع الشعر موضع الحياد، كي لا تظل التجربة مرتهنة داخل إطار الشعر وحده، وليفسح لها في النثر سبيلًا بعد أن تبارى عليها الشعر والتشكيل ردحًا من الزمن.
10-... إنسان!
ولعل آخر عتبة يحسن الوقوف بها، هي عبارة الشكر التي وردت في آخر الكتاب، من قبل جمعية رعاية الأيتام للشاعر لتبرعه بريع الكتاب لصالح الجمعية، ولا يمكن أن نقرأ هذه العتبة دون أن نستعيد الإهداء الذي تقدم به الشاعر لوالدته في بدء الكتاب، والصورة التي تبدى فيها الشيب وآثار السنين، ونتذكر حقيقة أن المرء يستشعر لوعة اليتم أكثر كلما تقدم به العمر، ولعل الشاعر الذي اكتوى بنار اليتم لوالدته وملهمته آثر أن يكون ريع ما ألهمته إياه للأيتام، الذين تحسى مثلهم مرارات الفقد والحنين، ورأى في الملهمة الغائبة أمًا لكل يتيم، فآثر أن ينالهم بعضًا من غيم إلهامها وغيثه، وكأنها ليست ملهمة الإبداع فقط، وإنا ملهمة الإنسانية وبياض النوايا.
وفي ظلال تلك العتبة نتوقف لنقول إن ذلك الشكر ليس مجرد عبارة ألحقت بالكتاب، بل هي شاهد مؤكد أن التجربة إذ تخرج بالإبداع عن إطار القصيدة إلى آفاقها الأرحب، وإذ تعبر إطار اللهجة إلى فضاءات اللغة؛ إنما هي تتسامى إلى محيطها الإنساني الأوسع والأشمل، لتكون قصيدة الإنسان، التي تستبطن مواجع الإنسان، وتكتب للإنسان.. ومن أجل الإنسان!
الهوامش:
ديوان (رسالة من بدوي)، بدر بن عبدالمحسن، ط 1، 1410.
عتبات (جيرار جينيت) من النص إلى المناص، عبدالحق بلعابد، ط 1،1429، الدار العربية للدراسات والنشر، ص 49.
السابق، ص49.
السابق، ص49.
مجلة المختلف، العدد 164، نوفمبر، 1996، ص 114.
السابق، ص114.
ومض، بدر بن عبدالمحسن، ط1، 2010، ص 23
السابق، ص23.
السابق، ص23.
غلاف كتاب «ومض»
قراءة - محمد الراشد




إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق